سورة الممتحنة - تفسير تفسير الزمخشري

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الممتحنة)


        


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)}
روي: أن مولاة لأبي عمرو بن صيفي بن هاشم يقال لها سارة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو يتجهز للفتح، فقال لها: أمسلمة جئت؟ قالت: لا. قال: أفمهاجرة جئت؟ قالت: لا. قال: فما جاء بك؟ قالت: كنتم الأهل والموالي والعشيرة، وقد ذهبت الموالي، تعني: قتلوا يوم بدر، فاحتجت حاجة شديدة فحث عليها بني عبد المطلب فكسوها وحملوها وزوّدوها، فأتاها حاطب بن أبي بلتعة وأعطاها عشرة دنانير وكساها برداً، واستحملها كتاباً إلى أهل مكة نسخته: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة، اعلموا أنّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يريدكم فخذوا حذركم، فخرجت سارة ونزل جبريل بالخبر، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وعماراً وعمر وطلحة والزبير والمقداد وأبا مرثد- وكانوا فرساناً- وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى أهل مكة، فخذوه منها وخلوها، فإن أبت فاضربوا عنقها، فأدركوها فجحدت وحلفت، فهموا بالرجوع فقال علي رضي الله عنه: والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله، وسلّ سيفه، وقال: أخرجي الكتاب أو تضعي رأسك، فأخرجته من عقاص شعرها. وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمّن جميع الناس يوم الفتح إلا أربعة: هي أحدهم، فاستحضر رسول الله حاطباً وقال: ما حملك عليه؟ فقال: يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت، ولا غششتك منذ نصحتك، ولا أحببتهم منذ فارقتهم؛ ولكني كنت أمرأ ملصقاً في قريش. وروى: عزيزاً فيهم، أي: غريباً، ولم أكن من أنفسها، وكل من معكم من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهاليهم وأموالهم غيري، فخشيت على أهلي، فأردت أن أتخذ عندهم يداً، وقد علمت أن الله تعالى ينزل عليهم بأسه. وأن كتابي لا يغني عنهم شيئاً، فصدقه وقبل عذره، فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق؛ فقال: «وما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» ففاضت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم، فنزلت، عدّى (اتخذ) إلى مفعوليه، وهما عدوي، وأولياء. والعدوّ: فعول، من عدا؛ كعفوّ من عفا؛ ولكونه على زنه المصدر أوقع على الجمع إيقاعه على الواحد.
فإن قلت: {تُلْقُونَ} بم يتعلق؟ قلت: يجوز أن يتعلق بلا تتخذوا حالاً من ضميره؛ وبأولياء صفة له. ويجوز أن يكون استئنافاً.
فإن قلت: إذا جعلته صفة لأولياء وقد جرى على غير من هوله، فأين الضمير البارز وهو قولك: تلقون إليهم أنتم بالمودّة؟ قلت: ذلك إنما اشترطوه في الأسماء دون الأفعال، لو قيل: أولياء ملقين إليهم بالمودّة على الوصف.
لما كان بد من الضمير البارز؛ والإلقاء عبارة عن إيصال المودّة والإفضاء بها إليهم: يقال ألقى إليه خراشي صدره، وأفضى إليه بقشوره. والباء في {بالمودة} إما زائدة مؤكدة للتعدي مثلها في {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} [البقرة: 195] وإما ثابتة على أن مفعول تلقون محذوف، معناه: تلقون إليهم أخبار رسول الله بسبب المودّة التي بينكم وبينهم. وكذلك قوله: {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بالمودة} أي: تفضون إليهم بمودتكم سراً. أو تسرّون إليهم إسرار رسول الله بسبب المودّة. التي بينكم وبينهم فإن قلت: {وَقَدْ كَفَرُواْ} حال مماذا؟ قلت: إما من {لاَ تَتَّخِذُواْ} وإما من {تُلْقُونَ} أي: لا تتولوهم أو توادّونهم وهذه حالهم. و{يُخْرِجُونَ} استئناف كالتفسير لكفرهم وعتوّهم. أو حال من كفروا. و{أَن تُؤْمِنُواْ} تعليل ليخرجون، أي يخرجونكم لإيمانكم، و{إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ} متعلق بلا تتخذوا، يعني: لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي. وقول النحويين في مثله: هو شرط جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه. و{تُسِرُّونَ} استئناف، ومعناه: أيّ طائل لكم في إسراركم وقد علمتم أن الإخفاء والإعلان سيان في علمي لا تفاوت بينهما، وأنا مطلع رسولي على ما تسرون {وَمَن يَفْعَلْهُ} ومن يفعل هذا الإسرار فقد أخطأ طريق الحق والصواب.
وقرأ الجحدري {لما جاءكم} أي: كفروا لأجل ما جاءكم، بمعنى: أن ما كان يجب أن يكون سبب إيمانهم جعلوه سبباً لكفرهم. {إِن يَثْقَفُوكُمْ} إن يظفروا بكم ويتمكنوا منكم {يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً} خالصي العداوة، ولا يكونوا لكم أولياء كما أنتم {وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بالسوء} بالقتال والشتم، وتمنوا لو ترتدّون عن دينكم، فإذن مودة أمثالهم ومناصحتهم خطأ عظيم منكم ومغالطة لأنفسكم ونحوه قوله تعالى: {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران: 118] فإن قلت: كيف أورد جواب الشرط مضارعاً مثله ثم قال {وَوَدُّواْ} بلفظ الماضي؟ قلت: الماضي وإن كان يجري في باب الشرط مجرى المضارع في علم الإعراب، فإن فيه نكتة، كأنه قيل: وودّوا قبل كل شيء كفركم وارتدادكم، يعني: أنهم يريدون أن يلحقوا بكم مضارّ الدنيا والدين جميعاً: من قتل الأنفس، وتمزيق الأعراض، وردّكم كفاراً أسبق المضارّ عندهم وأوّلها؛ لعلمهم أن الدين أعز عليكم من أرواحكم، لأنكم بذَّالون لها دونه، والعدوّ أهم شيء عنده أن يقصد أعز شيء عند صاحبه.


{لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)}
{لَن تَنفَعَكُمْ أرحامكم} أي قراباتكم {وَلاَ أولادكم} الذين توالون الكفار من أجلهم وتتقربون إليهم محاماة عليهم، ثم قال: {يَوْمَ القيامة يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} وبين أقاربكم وأولادكم {يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ...} [عبس: 34] الآية فما لكم ترفضون حق الله مراعاة لحق من يفرّ منكم غداً: خطأ رأيهم في موالاة الكفار بما يرجع إلى حال من والوه أوّلاً، ثم بما يرجع إلى حال من اقتضى تلك الموالاة ثانياً؛ ليريهم أن ما أقدموا عليه من أي جهة نظرت فيه وجدته باطلاً. قرئ: {يُفصَل ويُفصَّل}، على البناء للمفعول. ويَفصِل ويُفصِّل، على البناء للفاعل وهو الله عزّ وجل. ونفصل ونفصل، بالنون.


{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)}
وقرئ: {أسوة وإسوة} وهو اسم المؤتسى به، أي كان فيهم مذهب حسن مرضي بأن يؤتسى به ويتبع أثره، وهو قولهم لكفار قومهم ما قالوا، حيث كاشفوهم بالعداوة وقشروا لهم العصا، وأظهروا البغضاء والمقت، وصرحوا بأن سبب عداوتهم وبغضائهم ليس إلا كفرهم بالله؛ ومادام هذا السبب قائماً كانت العداوة قائمة، حتى إن أزالوه وآمنوا بالله وحده انقلبت العداوة موالاة، والبغضاء محبة، والمقت مقة، فأفصحوا عن محض الإخلاص. ومعنى {كَفَرْنَا بِكُمْ} وبما تعبدون من دون الله: أنا لا نعتدّ بشأنكم ولا بشأن آلهتكم، وما أنتم عندنا على شيء.
فإن قلت: مم استثني قوله: {إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم}؟ قلت: من قوله: {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} لأنه أراد بالأسوة الحسنة: قولهم الذي حق عليهم أن يأتسوا به ويتخذونه سنة يستنون بها.
فإن قلت: فإن كان قوله {لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} مستثنى من القول الذي هو أسوة حسنة، فما بال قوله: {وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَيْء} وهو غير حقيق بالاستثناء. ألا ترى إلى قوله {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً} [المائدة: 17] قلت: أراد استثناء جملة قوله لأبيه، والقصد إلى موعد الاستغفار له، وما بعده مبنيّ عليه وتابع له، كأنه قال: أنا أستغفر لك وما في طاقتي إلا الاستغفار.
فإن قلت: بم اتصل قوله: {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا}؟ قلت: بما قبل الاستثناء، وهو من جملة الأسوة الحسنة. ويجوز أن يكون المعنى: قولوا ربنا، أمراً من الله تعالى للمؤمنين بأن يقولوه، وتعليماً منه لهم تتميماً لما وصاهم به من قطع العلائق بينهم وبين الكفار، والائتساء بإبراهيم وقومه في البراءة منهم، وتنبيهاً على الإنابة إلى الله والاستعاذة به من فتنة أهل الكفر، والاستغفار مما فرط منهم. وقرى: {برآء} كشركاء. وبراء كظراف. وبراء على إبدال الضم من الكسر، كرخال ورباب. وبراء على الوصف بالمصدر. والبراء والبراءة كالظماء والظماءة.

1 | 2 | 3